تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 80 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 80

80 : تفسير الصفحة رقم 80 من القرآن الكريم

** وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً * وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة, حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت, ولهذا قال {واللاتي يأتين الفاحشة} يعني الزنا {من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم, فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيل} فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك, قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور, فنسخها بالجلد أو الرجم, وكذا رُوى عن عكرمة, وسعيد بن جبير والحسن وعطاء الخراساني وأبي صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك, أنها منسوخة, وهو أمر متفق عليه ـ قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا سعيد عن قتادة, عن الحسن, عن حطان بن عبد الله الرقاشي, عن عبادة بن الصامت, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي, أثر عليه, وكرب لذلك, وتَرَبّد وجهه, فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم, فلما سري عنه, قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً, الثيب بالثيب, والبكر بالبكر, الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة, والبكر جلد مائة ثم نفي سنة», وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة, عن الحسن, عن حطان, عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه «خذوا عني خذوا عني, قد جعل الله لهن سبيلاً, البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام, والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي عن مبارك ابن فضالة, عن الحسن, عن حطان بن عبد الله الرقاشي, عن عبادة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي, عرف ذلك في وجهه, فلما أنزلت {أو يجعل الله لهن سبيل} فلما ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا خذوا قد جعل الله لهن سبيلا, البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة, والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة». وقد روى الإمام أحمد أيضاً هذا الحديث عن وكيع بن الجراح, حدثنا الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حُرَيث, عن سلمة بن المحبق, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا عني خذوا عني, قد جعل الله لهن سبيلاً, البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة, والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وكذا رواه أبو داود مطولاً من حديث الفضل بن دلهم, ثم قال: وليس هو بالحافظ, كان قصاباً بواسط.
(حديث آخر) قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا عباس بن حمدان, حدثنا أحمد بن داود حدثنا عمرو بن عبد الغفار, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي, عن مسروق, عن أبي كعب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البكران يجلدان وينفيان, والثيبان يجلدان ويرجمان, والشيخان يرجمان» هذا حديث غريب من هذا الوجه ـ وروى الطبراني من طريق ابن لهيعة عن أخيه عيسى بن لهيعة, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: لما نزلت سورة النساء, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا حبس بعد سورة النساء». وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث, وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني, وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد, قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين, ولم يجلدهم قبل ذلك, فدل على أن الرجم ليس بحتم, بل هو منسوخ على قولهم, والله أعلم وقوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهم} أي واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما, قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما: أي بالشتم والتعيير والضرب بالنعال, وكان الحكم كذلك, حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم, وقال عكرمة وعطاء والحسن وعبد الله بن كثير: نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا. وقال السدي: نزلت في الفتيان من قبل أن يتزوجوا. وقال مجاهد: نزلت في الرجلين إذا فعلا ـ لا يكنى, وكأنه يريد اللواط ـ والله أعلم, وقد روى أهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط, فاقتلوا الفاعل والمفعول به». وقوله: {فإن تابا وأصلح} أي أقلعا ونزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت, {فأعرضوا عنهم} أي لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك, لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له {إن الله كان تواباً رحيم}. وقد ثبت في الصحيحين «إذا زنت أمة أحدكم, فليجلدها الحد ولا يثرب عليها» أي ثم لا يعيرها بما صنعت بعد الحد الذي هو كفارة لما صنعت.

** إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الاَنَ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُوْلَـَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
يقول سبحانه وتعالى: إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو قبل معاينة الملك روحه قبل الغرغرة. قال مجاهد وغير واحد: كل من عصى الله خطأ أو عمداً, فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب, وقال قتادة عن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة, رواه ابن جرير. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة, قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به, فهو جهالة عمداً كان أو غيره. وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد, قال: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها قال ابن جريج: وقال لي عطاء بن أبي رباح, نحوه. وقال أبو صالح عن ابن عباس: من جهالته عمل السوء, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ثم يتوبون من قريب} قال: ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي: ما دام في صحته, وهو مروي عن ابن عباس. وقال الحسن البصري {ثم يتوبون من قريب}, مالم يغرغر. وقال عكرمة: الدنيا كلها قريب.

ذكر الأحاديث في ذلك
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عياش, وعصام بن خالد, قالا: حدثنا ابن ثوبان عن أبيه, عن مكحول, عن جبير بن نفير, عن ابن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر» رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به, وقال الترمذي: حسن غريب. ووقع في سنن ابن ماجه, عن عبد الله بن عمرو وهو وهم إنما هو عبد الله بن عمر بن الخطاب.
(حديث آخر) عن ابن عمر قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن معمر, حدثنا عبدالله بن الحسن الخراساني, حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي, حدثنا أيوب بن نهيك الحلبي, سمعت عطاء بن أبي رباح, قال: سمعت عبد الله بن عمر, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه وأدنى من ذلك, وقبل موته بيوم وساعة يعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه إلا قبل منه».
(حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن إبراهيم بن ميمونة, أخبرني رجل من ملحان يقال له أيوب قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: من تاب قبل موته بعام تيب عليه, ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه, ومن تاب قبل موته بجمعة تيب عليه, ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه, ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه, فقلت له: إنما قال الله {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} فقال: إنما أحدثك ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي وأبو عامر العقدي عن شعبة.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا محمد بن مطرف, عن زيد بن اسلم, عن عبد الرحمن بن البَيْلماني, قال: اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم», فقال الاَخر: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم», فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة», قال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر بنفسه». وقد رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي, عن زيد بن أسلم, عن عبد الرحمن بن البَيْلماني, فذكر قريباً منه.
(حديث آخر) قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد, حدثنا عمران بن عبد الرحيم, حدثنا عثمان بن الهيثم, حدثنا عوف عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يقبل توبة عبده مالم يغرغر».

أحاديث في ذلك مرسلة
قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا ابن أبي عدي عن عوف, عن الحسن, قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال«إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر», هذا مرسل حسن عن الحسن البصري رحمه الله. وقد قال ابن جرير أيضاً رحمه الله: حدثنا ابن بشار, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي عن قتادة, عن العلاء بن زياد, عن أبي أيوب بشير بن كعب أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر», وحدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الأعلى عن سعيد, عن قتادة, عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال, فذكر مثله.
(أثر آخر) قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا أبو داود, حدثنا عمران عن قتادة, قال: كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قلابة, فحدث أبو قلابة فقال: إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة, فقال: وعزتك وجلالك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح, فقال الله عز وجل: وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح. وقد ورد هذا في حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري, كلاهما عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «قال إبليس: وعزتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم, فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة, فإن توبته مقبولة, ولهذا قال تعالى {فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيم} وأما متى وقع الإياس من الحياة, وعاين الملك, وحشرجت الروح في الحلق وضاق بها الصدر, وبلغت الحلقوم, وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم, فلا توبة مقبولة حينئذ, ولات حين مناص, ولهذا قال {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الاَن} وهذا كما قال تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} الاَيتين, وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها في قوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل, أو كسبت في إيمانها خير} الاَية, وقوله {ولا الذين يموتون وهم كفار} يعني أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته, ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض. قال ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس {ولا الذين يموتون وهم كفار} قالوا: نزلت في أهل الشرك. وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود, قال: حدثنا عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان, قال: حدثني أبي عن مكحول أن عمر بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان أن أبا ذر حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده مالم يقع الحجاب». قيل: وما وقوع الحجاب ؟ قال «أن تخرج النفس وهي مشركة», ولهذا قال الله تعالى: {أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليم} أي موجعاً شديداً مقيماً.